بحضور فخامة الرئيس نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان، وعدد من وزراء حكومة إقليم كوردستان والقناصل والدبلوماسيين الأجانب، والمحللين والخبراء الدوليين، وأساتذة الجامعات، عقد في أربيل صباح اليوم الاثنين (30 أيار 2022)، مؤتمر "السلام من خلال الاعتدال" الذي نظمته منظمة (سبارك) الهولندية بالتعاون مع القنصلية الهولندية في إقليم كوردستان.
وبعد إلقاء كلمات من قبل المشاركين في المؤتمر، ألقى فخامة الرئيس نيجيرفان بارزاني كلمة هذا نصها:
أيها السادة، طاب صباحكم،
أهلاً ومرحباً بكم جميعاً في هذا المؤتمر وأرجو أن يتمخض مؤتمركم عن نتائج جيدة..
يسعدني أننا نشارك اليوم معاً في هذا المؤتمر، وأشد على أيدي منظمة (سبارك) الهولندية وكل الأطراف التي كان لها دور في تنظيم هذا المؤتمر. هذه فرصة جيدة لنبحث في موضوع مهم، في السلام، و(الاعتدال كطريق إلى السلام)، أشكركم على هذا.
أيها السادة..
في وقت يعاني عالمنا اليوم من مجموعة تحديات وأزمات متنوعة، أصبح السلام ضرورياً أكثر من أي وقت. فتداعيات كورونا وخاصة على المجال الاقتصادي، الإرهاب والتشدد، الحروب والصدامات، الخلافات السياسية والجيوسياسية، العمل بمنطق القوة، الحديث بلغة السلاح، محاولات فرض النفوذ وإلى آخرها، أمور توشك أن تضع السلام العالمي في مواجهة خطر حقيقي! الأحداث والتطورات تجري بصورة تؤدي إلى القلق، وتثير سؤالاً مؤلماً يكاد يشغل بال البشرية كافة:
- هل العالم ماضٍ باتجاه حرب أخرى بين القوى العظمى؟
في ظل ظروف كهذه، ربما يكون حفظ السلام والاستقرار، في قليل من مناطق العالم، مهمّيْن كأهميتهما وأولويتهما للشرق الأوسط! في أرض ثرية بكل هذه المكونات القومية والدينية، وبتاريخ حافل بالمرارة والمآسي، مليء بالحروب والدماء والفواجع، ربما ليس هناك شيء يضاهي في أهميته أهمية السلام وحفظ السلام في هذه المنطقة!
لو أخذنا العراق كعينة صغيرة في الشرق الأوسط، نجد أن السلام والاستقرار فيه، وبحجم أهميتهما للبلد نفسه، مهمان بنفس القدر وربما أكثر وضروريان للسلام والاستقرار في المنطقة! فطوال تاريخ البلد، أدى غياب السلام والاستقرار في العراق إلى غياب الأمان والاستقرار عن المنطقة بصورة عامة! وأهدر ثروات طائلة كان يمكن، مع توفر الاعتدال والسلام، أن تجعل من العراق احدى أفضل دول المنطقة والعالم وأكثرها تقدماً.
تداعيات غياب السلام وعدم الاستقرار في العراق، قوّضا في أحيان كثيرة أوضاع الدول المجاورة ودول المنطقة! بل هددا السلام العالمي أيضاً.
وإذا تلافينا العودة إلى التاريخ القديم للصراعات والصدامات المذهبية والطائفية والقومية، وتناولنا فقط التاريخ الحديث للعراق، نجد كم من الحروب والدمار والكوارث جلبها على العراق والمنطقة، الظلمُ الذي مورس منذ تشكيل الدولة العراقية بحق شعب كوردستان ومكوناته. نجد كم ألحقت تداعياته الضرر بالمنطقة وبالسلام والاستقرار في المنطقة.
الحرب العراقية – الإيرانية، وبعدها احتلال الكويت من جانب العراق، تشكيل وقدوم التحالف الدولي لتحرير الكويت وحرب الخليج الثانية، ومعركة تحرير العراق، وجميع الأحداث التي تبعتها وصولاً إلى ظهور داعش في هذه المنطقة، وغيرت من توازنات القوة والمصالح والتوازن السياسي للدول في المنطقة تغييراً كلياً، كلها نجمت عن أن السلام وفكر السلام والاعتدال والاستقرار كانوا مفقودين في العراق!
- بعد هذا الماضي الأليم، تُرى ما الذي يجب أن يحصل لندرك نحن مكونات هذا البلد أننا بحاجة إلى السلام، وأننا بحاجة للاعتدال؟
سلام حقيقي يخلق الثقة والطمأنينة! تكون في ظله مكونات العراق كافة، مهما كانت قومياتها وأديانها ومذاهبها، ومهما كانت أفكارها ووجهات نظرها ورؤاها، تعيش معاً في سلام، وفي وئام وتسامح، والأهم من كل هذا، أن يقبل أحدهم الآخر في بلد وفي جغرافيا اسمها العراق. سلام تكون حياة وحريات الكل محفوظة في ظله. سلام يكون مظلة وجامعاً لكل مكونات العراق وتكون معه خصوصيات وحقوق واستحقاقات الجميع مضمونة بموجب الدستور والقانون ومحفوظة!
- لكن، كيف لسلام كهذا أن يتحقق في العراق؟ هذا هو السؤال..
إلى جانب التسامح، الوئام، حماية التعددية، احترام المقابل واختلافاته، يمثل الاعتدال بالتأكيد واحداً من الأعمدة الأساس التي يبنى السلام عليها.
في العراق، وبضمنه إقليم كوردستان، الذي يمثل وكما أسلفت عينة صغيرة للشرق الأوسط، نحتاج إلى الاعتدال بدءاً من حياتنا الفردية، ووصولاً إلى أعلى هرم السلطة والإدارة بما فيها المراكز الدينية. نحن بحاجة إلى تعميق ثقافة اللاعنف. لهذا يجب أن يكون الاعتدال حاضراً في كل مفاصل الحياة. خاصة ضمن إطار الأسرة، وفي نظام التربية والتعليم، وكذلك في العلاقات والتعامل السياسي.
في العراق، وعند الجميع، بدءاً بالفرد والأسرة، ووصولاً إلى القوى والأطراف والقيادات السياسية، وإلى الزعماء والمرشدين الدينيين، وكل الطبقات والشرائح، يمثل الاعتدال الطريق الصواب والضروري والأول للسلام، للتعايش، لقبول الآخر، وللتسامح.
الأمر الأهم لتحقيق احترام الآخر، وفهمه، هو أن نتحلى بالاعتدال في أفكارنا وتوجهاتنا. الاعتدال، يمثل القوة والحكمة والثقة بالنفس، وهذه هي التي تؤدي إلى السلام والأمان والاستقرار. في بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، كالعراق، إذا غاب الاعتدال، ولدت القاعدة وجند الإسلام وداعش والكوارث الأخرى في هذا البلد. فيذبحون الناس بدم بارد أمام الكاميرات، ويقطعون الرقاب ويضحكون عندما يرتكبون هذه الأفعال!
ماضي العراق، بكل حروبه وكوارثه وفواجعه، يجب أن يصبح عبرة لنا جميعاً. أن يصبح درساً، ودليلاً موجهاً لنا لاتخاذ الخطوات باتجاه مستقبل أفضل لكل مكونات هذا البلد. باتجاه بناء مجتمع تنعكس عليه آثار التعددية والتنوع وحقوق ومستحقات ومطالب وآمال مكونات هذا البلد ويعبر عنها.
فمنذ البداية، منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، وإلى اليوم، لو أن السلطات العراقية تعاملت بواقعية مع قضية الشعب الكوردي، ولو أنها عوضاً عن الحرب واستخدام منطق القوة، تعاملت بواقعية ولم تلجأ إلى السلاح والحرب، ولو بحثت السلطات العراقية عوضاً عن ذلك، عن حلول واقعية وصبت اهتمامها على مستقبل البلد، فلا شك لم يك الشعب العراقي يعاني من كل هذه الفواجع والمآسي، ولكان قدر العراق مختلفاً الآن.
والآن وللتعامل مع الحقوق الدستورية لإقليم كوردستان وكل المكونات التي في إقليم كوردستان، فإننا في العراق بحاجة إلى قراءة وفهم وحل واقعي يضمن الحقوق والحريات والسلام لكل العراقيين.
أيها السادة..
ما تشهده الآن العملية السياسية في العراق، وهذا الركود والانسداد الذي حدث، يمثل غياب الاعتدال! فلو أن الأطراف أبدت شيئاً من الاعتدال وتعاملت باعتدال مع الوضع، لمضت العملية السياسية في اتجاه آخر، بالطبع أقصد العراق، ومع العراق أقصد إقليم كوردستان كجزء من العراق. ولما استعصت هذه العملية وتعقدت كما هي الآن، لكن عندما بات التعصب والتشدد في المواقف وردود الأفعال سيد الموقف وصاحب القرار، كانت النتيجة الوضع الذي نجده اليوم في البلد.
والآن، ومن أجل الخروج من هذا الطريق المسدود، على كل الأطراف العودة إلى الاعتدال والحوار والتفاهم وقبول الآخر واحترام حقوق الجميع، ومراعاة المصالح العليا للبلد والشعب والتي يجب أن تكون فوق كل المصالح الأخرى. فبإمكان الاعتدال أن يهدم الجدران النفسية، ويزيل الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام وكسر الآخر، ويفتح الباب في وجه السلام والاستقرار.
فقط في ظل التسامح، التعاضد والوئام، يمكن لمكونات العراق أن تعيش في سلام. والأمر هو كذلك لسائر دول الشرق الأوسط ومكوناتها. ينبغي أن يكون الماضي قد علمنا أنه لتحقيق الأمان والاستقرار والتقدم والرفاهية، لا بد أن نفكر جميعنا في الاعتدال وفي السلام. السلام والعثور على سبله، أصبح مسؤولية وواجباً مشتركاً على كل الشعوب والقوميات والمكونات في البلد وفي المنطقة. فسلام الجميع مترابط. فإن لم يكن سلام جاري محفوظاً، لن يكون سلامي أنا محفوظاً!
فعراقٌ وشرقٌ أوسط آمنين مستقرين، لا يتحولان إلى معقل للتشدد والإرهاب، ولا إلى تهديد لسلام واستقرار المنطقة والعالم، ولا إلى خطر على الإنسانية، يجب أن يسلكا طريق الحوار والسلام والاعتدال. لهذا فإن حفظ السلام في المنطقة واجب مشترك يتحمله المجتمع الدولي أيضاً وعلى أصدقائنا في العالم أن يساعدونا ويعينونا في إقرار السلام والاستقرار. وهذا ما نتوقعه منهم.
أرجو أن نخطو جميعنا في إقليم كوردستان وفي العراق والمنطقة، من الآن خطواتنا على أساس السلام للجميع، وأن تجمعنا جميعنا معاً مهمة حفظ السلام والحرية. أرجو النجاح ونتائج وتوصيات جيدة لمؤتمركم هذا.
نهار سعيد للجميع..
شكراً جزيلاً وأهلاً بكم..